الخميس، أغسطس ٣١، ٢٠٠٦
هذا ما أحاول أن أكتبه في المقال المقبل
e.mail:tamahi@hotmail.com
جمال الجمل
المثقف والحثالة

تخيلوا ظامئاً يشتهى جرعة ماء، وجد نفسه فجأة يصارع طوفاناً مدمراً يغرق كل شيء.. البيوت، الأشجار، البشر.. هل يستطيع ذلك الظامئ أن يشرب فرحاً بالعثور على الماء؟ لا شك أن الوفرة هنا لم تحافظ على الصفات الإيجابية للماء فتحول من "قوة حياة" إلى "قوة تدمير، وتشويه، وموت.. أي قوة قتل ثلاثية!!هذه الصورة المبسطة لا تقف عند الحدود المرسومة لثنائية "الكيف والكم"، التي يحلو لمعظم المثقفين مناقشتها كاختيار بين طرفين متناقضين، لكنها توضح أن مبدأ "التنامي" و"التوسع" و"التطوير"، يجب ألا يكون مبرراً أبداً لفقدان الصفات الأصلية للشيء، من هنا ثارت المناقشات حول جدوى استخدام الهندسة الوراثية في زيادة حجم الفواكه والنباتات والإنتاج الحيواني، خاصة بعدما تغير طعم المنتج الجديد وأصبح "البطيخ" بطعم "الخيار".إذا حاولنا النظر إلى حالة الثفافة والمثقفين وفق "نظرية البطيخ/الخيار" فسوف تقفز أمامنا بسهولة معارك قديمة عن تراجع حال الثقافة في مصر بالرغم من الزخم الكبير في الإصدارات من كتب ودوريات، وبالرغم من تنامي مظاهر المواسم والفعاليات الثقافية في مهرجانات وندوات ومسابقات وصحف أدبية وثقافية وفكرية متخصصة.
لكن لماذا توجد أدوات للثقافة.. ويوجد نشطاء في الحقل الثقافي.. من دون أن توجد حالة ثقافية في الشارع؟
قرأت إجابات كثيرة ودراسات مطولة تناولت كل شيء في هذا الموضوع، لكن أحداً لم يستطع أن يساهم في نقل "الحالة" من "الأداء المظهري.. الوظيفي.. الكمي.. الارتزاقي.. إلى المفهوم الجوهري للثقافة كسلوك يشمل العادات والأخلاق والقدرة علي حل المشكلات وتجاوز الأزمات حسب التعريف الإنثربولوجي الشامل لمصطلح الثقافة الذي يعنى ببساطة "التهذيب".من هناك توصلت إلى أن "الأدب" شرط أساسي للأدب، و"الأخلاق" شرط أساسي للمثقف، وهذا لا يعني السقوط في فخ السذج الذين يريدون تحويل الأدب والثقافة لمجموعة من النصائح والتعاليم الأخلاقية، فهذا يدخل تحت إطار أسلوب المعالجة وقواعد اللون الذي نكتب من خلاله والذي قد يقتضي الخروج على الأخلاق شكلاً لتأكيد جوهرها في مجمل العمل.. ومن هنا يجب أن نحترس من التعامل المبسط مع مثل هذه القضايا المركبة والمعقدة حتى لا يتحول الدور الإنساني للثقافة والإبداع إلى ذريعة لتسطيح "الكتابة" وتدمير قواعدها الجمالية وشروطها الموزعة بين "الموهبة والالتزام" أو "الاستعداد والمواءمة" أو "الحرية والضرورة"، كما يجب أن نحترس حتى لا تتحول الرغبة في التجاوز والتطوير تحت مسميات "الحداثة" و"ما بعدها" إلى مجرد نزوات ونزعات تدميرية تتعلق بجاذبية الجديد تحت تأثير ظروف اجتماعية وسياسية وأخلاقية تساعد على انتشار ممارسات "القطيعة" و"الانتهاك" و"التفكيك".. و"تدمير اللغة أو البنى" و"تحطيم الزمن" و"كسر السرد".. وما إلى ذلك من مصطلحات تتوقف عند الخطوة الأولى للثورة­ أي ثورة ­ حيث يجب أن يكون الموت دائماً من أجل الحياة ويجب أن تتيح الخلية التي تذوب وتتلاشى فرصة أفضل للخلايا الجديدة، ومن هنا فإن فكرة "الإحلال والتجديد" تقتضي أن ندرس مدى قدرة "القطيعة المعرفية" على تحقيق التواصل، ومدى قدرة الانتهاك على رتق المفاهيم الرثة، أو نسج أخرى أكثر إحكاماً، ومدى قدرة البناء والتركيب السليم بعد التفكيك.. وهكذاربما لا تكون الدعوة جديدة، لأن ثمة من قالوا إنه لا جديد تحت الشمس، ولأن الناقد الفرنسي المغبون في ثقافتنا "فرانسوا ريكار" حاول قراءة إبداعات ميلان كونديرا من خلال قدرة هذا الروائي المثير للجدل على "التفكيك الفني" مستخلصاً نتيجة ترى أن تفكيك كونديرا أقرب إلى ما يقوم به الجراح أو المهندس الذي يقوم بالتشريح أو التفكيك، وفق ثقافة ورؤية علمية مسبقة وليس تحت تأثير حالة إنفعالية تجعل من التفكيك تخريباً وتدميراً لا يؤدى إلى نتيجة أفضل كما في حال المهندس والطبيب.لذا تبدو النظرة إلى ثقافة ووعي العاملين في الحقل الثقافي ضرورية كشرط يحدد مدى قدرتهم على الاستجابة لتحديات مركبة وصعبة قد يقوم بها من حيث الشكل و"تسديد الخانة" كل من هب ودب، لكن المهمة الحقيقية لن تتم بنجاح إلا إذا نجحنا في خلق مناخ اجتماعي وسياسي واقتصادي يمنع "الحثالة" من احتلال أماكن النخبة، ويحول المثقفين إلى موظفين، وفقد رؤية الحكام، مع الإشارة إلى أن تعبير "الحثالة" لا يخصني ولا يشير إلى أى إدانات أخلاقية أو طبقية لكنه أحد المصطلحات الشائعة في دراسة أحوال سياسية وثقافية، حيث تعني "حثالتة البروليتارويا" مفهوماً اصطلاحياً محدداً في الفكر الماركسي، كما تعني "حثالة الانتلجنسياً" مفهوماً محدداً ينطبق على محترفي النقل الثقافي وعموم الصحافيين الذين لا ينتجون من الثقافة شيئاً، وإن كانوا يساعدون في ترويجها­ أحياناً من دون أن يفهموا منها الكثير­ ولديّ بحكم عملي مئات الأمثلة والنماذج التي لم أعد أفكر في اليوم الذي يمكن تنقية الصحافة منها إلا إذا بدأت خطوات إعادة ترتيب المجتمع بالكامل.. وطالما لم يقترب ذلك اليوم، فيجب ألا نخجل من تحكم "الحثالة"، في مقاليد الأمور، فالمجتمعات تنال ما تستحقه من كل شيء، وفق القاعدة التي برر بها نجيب الريحاني الإختلاس في إحدى مسرحياته في الثلاثينات قائلا: "شيء لزوم الشيء"
فإلى متي يظل كل هذا العفن ملازم للمجتمع؟
أعتقد أن الإجابة ليست في يدنا، لكنها في يد المجتمع كله

Bookmark and Share

0 التعليقات: